الثلاثاء، ٨ ديسمبر ٢٠٠٩

اتركوهم يتظاهروا


عبد الله حربكانين - الدوحة

الاثنين 7-12-2009

استمعت للعديد من الحجج القانونية والفلسفية في التلفزيونات والراديو والإنترنت لتبرير منع المعارضة من تسيير مظاهرة سلمية للبرلمان في أم درمان اليوم الاثنين فيها أن المنظمين لم يحصلوا على تصديق رسمي أو أنهم لم يكملوا الإجراءات المطلوبة ليكون مثل هذا النشاط قانونيا، لكنها لم تكن مقنعة بالنسبة لي.

لا نختلف في أن هذا العمل من تدبير الحركة الشعبية التي تستقوي بالقوى الشمالية للحصول على أكبر المكاسب السياسية في اتفاقية السلام الشامل وقد برزت ميولها هذه مباشرة بعد نتيجة الإحصاء السكاني الذي كشف أن ما حصلت عليه في الاتفاقية لم يكن حقيقيا وبعد أن فشلت في فسح نتيجة التعداد الذي شاركت فيه عناصرها سعت لعرقلة العمل السياسي في البلاد من مبدأ "رجل في الحكومة وأخرى في المعارضة" فهي تطرح القوانين المتشددة في البرلمان مثل قانون الصحافة وتخرج لتعارضها وهي الحزب السياسي الوحيد في العالم الذي يمارس الحكم والمعارضة في نفس الوقت.

وقد زاد توجه الحركة الشعبية لعرقلة العمل السياسي بعد حكم محكمة لاهاي الذي سلبها مواقع نفطية مهمة كانت تعول عليها كثيرا، ساهم في ذلك ضعف وعيها السياسي أصلا ومعذورة في ذلك لأنها كما يقال "من الغابة للقصر" وعدم قدرتها على التفاوض والحوار لذلك كانت تعقد الاتفاقيات في الخرطوم وتنقضها في جوبا وتتضارب تصريحات قياداتها. ففي صباح يوم قال أمينها العام باقان أموم أن الحوار مع المؤتمر الوطني وصل لطريق مسدود ليأتي زعيم الحركة في المساء لينفي للجزيرة من جوبا ذلك ويتحدث عن مشاورات ولقاءات وانجازات.

نجحت الحركة الشعبية بقيادة الصقور من أمثال باقان وياسر عرمان نائب أمينها العام ورئيس كتلتها البرلمانية في توظيف الأحزاب الشمالية لصالحها في وقت تحتاج فيه هذه الأحزاب لقوة دفع فقدتها لعدة أسباب أبرزها عدم ديمقراطية بنائها التنظيمي، وتآكل قواعدها الشعبية. فكان مؤتمر جوبا أول الحلقات واتبع بلقاء في الخرطوم، قامت بعده الحركة بسحب نوابها من البرلمان احتجاجا على ما تسميه تأخير الجهاز التشريعي لتمرير القوانين دون أن تدرك أن غيابها يؤثر في عمله، وهي تعلم أن الدورة البرلمانية أشرفت على النهاية، فهي إذن تمارس الضغط السياسي لقطف الثمار وليس التفاوض والتوافق.

فهي قطفت بعد لقاء جوبا ثمرة اتفاق الاستفتاء ليكون بنسبة خمسين بالمائة زائدا واحد وتستعد للثمرة الثانية وهي نسبة المشاركة في الاستفتاء بدل سبعة وستين بالمائة المطروحة من المؤتمر الوطني لتكون أيضا خمسين بالمائة زائدا واحد وفي حال نجحت في ذلك ستعود للبرلمان وتعاود نشاطها كما كان ولن تلتفت لقوانين التحول الديمقراطي أو المشورة الشعبية الخاصة بالنيل الأزرق وجبال النوبة كما يعتقد البعض.

لا يمكن لوم الحركة الشعبية على ميكافيلليتها هذه، ولكن اللوم على الأحزاب التاريخية التي انجرت لهكذا مستنقع وهي تعلم أن قيادات الحركة لا تفكر في الشمال وعينها بعد نحو عام على الدولة المستقلة وهي غير معنية بالمشاركة في الانتخابات لأن مرشحها سيفوز في الجنوب، بينما الأحزاب السياسية أضاعت على نفسها فرصة حشد جماهيرها للتسجيل للانتخابات وتنوير قواعدها بأهمية هذه المشاركة وهذه هي النقطة المهمة. فالمستغرب أن أحزابنا تحتج على ثنائية اتفاقية السلام وتطالب بالمشاركة وهي تعلم أن الحركة الشعبية ترفض ذلك لكنها لا تلومها بل تتحالف معها.

كنت أتوقع أن تستغل أحزابنا السياسية فرصة انشغال الشريكين بخلافاتهما لوضع برامج لخوض الانتخابات، مع السعي لكسب مزيد من العضوية أو تنشيط عضويتها الخاملة وتطوير أدوات عملها، لكنها آثرت أن تكون "العربة التي يجرها الحمار".

التظاهر حق مشروع كفله الدستور ونظمه القانون لذلك نؤيده بشدة ونرفض تقييده مهما كان فهو المدخل للتعافي السياسي وتخطي حقب الاحتقان السياسي، لذلك اختلف مع الذين قرروا منع المظاهرة لعدة أسباب هي أولا: أن الحركة الشعبية كانت تمني النفس بمنع المظاهرة لتحولها إلى ورقة ضغط سياسي وها هي فعلت ونجحت في تسويق نفسها على أنها قائدة ركب الحرية والتحول الديمقراطي في الشمال ووجدت لنفسها مبررات إضافية لزيادة قمع شعب جنوب السودان الذي تحكمه بالبندقية.

وثانيا: تسبب منع مظاهرة ما كانت لتفعل الكثير لو تركت تمر بدون اعتراض في تخريب الصورة الإعلامية الآخذة في التحسن مؤخرا خاصة بعد اتجاه قضية دارفور نحو الحل السلمي وخفوت آلة الإعلام الغربي المركز على القضية واستعدت صحفيين أجانب ومحليين في وقت تحتاجه البلاد لعكس الصور الايجابية عن تدفق الاستثمار ونمو الاقتصاد وتحسن أحوال المعيشة رغم الغلاء الذي يضرب البلاد.

سيحتاج المؤتمر الوطني لجهد مضاعف لمحو ما الصق به من اتهامات بانتهاك الحريات الشخصية ومنع المظاهرات السلمية وثبت على نفسه تهم ضرب الصحفيين والتعدي على وسائل الإعلام التي جاءت لتغطية الحدث ولم تكن طرفا فيه. فقد كان الأجدى بمن أتخذ القرار أن ينظر في رد الفعل وليس الفعل "الممكن السيطرة عليه"، خاصة وأن القوى الأمنية التي استنفرت كانت كفيلة بحماية الأرواح والممتلكات في حال انحرفت المسيرة عن وجهتها.

وكان المؤتمر الوطني سيضع المعارضة في المحك فإن هي حرفت المسيرة عن وجهتها أو تحولت لشغب وغوغائية، كشف عمليا سوء نواياها وإن سارت بسلام كما ادعى منظموها كسب احترام حتى جماهير المعارضة نفسها وأخرس ألسنة قادتها وفي كل الأحوال كان سيعرف حجم هذه المعارضة في الشارع السوداني وهو درس مفيد سياسيا، بيد أن ما حدث وضع المؤتمر الوطني في خانة الدفاع وأفقده قوة المناورة الإعلامية وغطى على نجاح حملة تسجيل الناخبين التي شكك فيها حتى الغرب ولم يرد ذكرها إلا على إعلامنا المحلي الغير قادر كما نعلم على التأثير عالميا.

لعل هذا يكون درسا في المستقبل للتعاطي مع مثل هذه القضايا بمنظور أشمل وأفق أوسع وأعمق لجني ثمار مشاركة سياسية سودانية راشدة وواعدة. والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق